سورة الإسراء - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{وَكُلَّ إنسان} مكلف {ألزمناه طائره} أي عملَه الصادرَ عنه باختياره حسبما قُدِّر له كأنه طار إليه من عُشّ الغيب ووَكْر القدر، أو ما وقع له في القسمة الإلية الواقعةِ حسب استحقاقِه في العلم الأزليِّ من قولهم: طار له سهمٌ كذا {فِى عُنُقِهِ} تصويرٌ لشدة اللزوم وكمالِ الارتباط أي ألزمناه عملَه بحيث لا يفارقه أبداً بل يلزمه لزومَ القِلادة أو الغُلّ للعنق لا ينفك عنه بحال، وقرئ بسكون النون {وَنُخْرِجُ لَهُ} بنون العظمة وقد قرئ بالياء مبنياً للفاعل على أن الضمير لله عز وجل وللمفعول، والضمير للطائر كما في قراءة يخرُج من الخروج {يَوْمُ القيامة} للحساب {كتابا} مسطوراً فيه ما ذكر من عمله نقيراً وقِطميراً وهو مفعول لنُخرجُ على القراءتين الأُوليين أو حالٌ من المفعول المحذوفِ الراجع إلى الطائر وعلى الأخرَيَين حالٌ من المستتر في الفعل من ضمير الطائر {يلقاه} الإنسان {مَنْشُوراً} وهما صفتان للكتاب أو الأول صفةٌ والثاني حالٌ منها، وقرئ: {يلقاه} من لقِيته كذا أي يلقى الإنسانُ إياه. قال الحسن: بُسِطت لك صحيفةٌ ووكّل بك ملكان فهما عن يمينك وعن شمالك فأما الذي عن يمينك فيحفظ سيئاتِك حتى إذا مُت طُويت صحيفتُك وجُعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة.
{اقرأ كتابك} أي قائلين لك ذلك. عن قتادة يقرأ ذلك اليومَ من لم يكن في الدنيا قارئاً، وقيل: المرادُ بالكتاب نفسُه المنتقشةُ بآثار أعماله فإن كل عمل يصدُر من الإنسان خيراً أو شرًّا يحدُث منه في جوهر روحِه أمرٌ مخصوصٌ إلا أنه يخفى ما دام الروحُ متعلقاً بالبدن مشتغلاً بواردات الحواسِّ والقُوى، فإذا انقطعت علاقتُه عن البدن قامت قيامته لأن النفس كانت ساكنةً مستقرة في الجسد وعند ذلك قامت وتوجهت نحو الصعود إلى العالم العلويِّ فيزول الغطاءُ وتنكشف الأحوالُ ويظهر على لَوح النفس نقشُ كلِّ شيء عملِه في مدة عمرِه وهذا معنى الكتابة والقراءة {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا} أي كفى نفسُك، والباء زائدة واليومَ ظرفٌ لكفى وحسيباً تمييزٌ و(على) صلتُه لأنه بمعنى الحاسب كالصريم بمعنى الصارم من حسَب عليه كذا. أو بمعنى الكافي، ووُضِع موضعَ الشهيد لأنه يكفي المدعي ما أهمه. وتذكيرُه لأن ما ذكر من الحساب والكفاية مما يتولاه الرجال أو لأنه مبنيٌّ على تأويل النفس بالشخص على أنها عبارة عن نفس المذكر كقول جَبَلةَ بن حريث:
يا نفسُ إنكِ باللذات مسرور *** فهل ينفعَنْك اليوم تذكيرُ
{مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ} فذلكةٌ لما تقدم من بيان كونِ القرآن هادياً لأقوم الطرائقِ ولزومِ الأعمال لأصحابها، أي من اهتدى بهدايته وعمِل بما في تضاعيفه من الأحكام وانتهى عما نهاه عنه فإنما تعود منفعةُ اهتدائِه إلى نفسه لا تتخطاه إلى غيره ممن لم يهتدِ {وَمَن ضَلَّ} عن الطريقة التي يهديه إليها {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي فإنما وبالُ ضلاله عليها لا على من عداه ممّن يباشره حتى يمكن مفارقةُ العمل صاحبَه {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} تأكيد للجملة الثانية، أي لا تحمل نفسٌ حاملةٌ للوزر وزرَ نفسٍ أخرى حتى يمكن تخلّصُ النفس الثانية عن وزرها ويختلَّ ما بين العامل وعملِه من التلازم، بل إنما تحمل كلٌّ منها وزرها، وهذا تحقيقٌ لمعنى قوله عز وجل: {وَكُلَّ إنسان ألزمناه طائره فِى عُنُقِهِ} وأما ما يدل عليه قوله تعالى: {مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا} وقوله تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} مِن حمْل الغير وانتفاعِه بحسنته وتضرره بسيئته فهو في الحقيقة انتفاعٌ بحسنة نفسِه وتضرّرٌ بسيئته فإن جزاءَ الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العاملُ لازمٌ له.
وإنما الذي يصل إلى مَنْ يشفع جزاءُ شفاعته لا جزاءُ أصل الحسنة والسيئة، وكذلك جزاءُ الضلال مقصورٌ على الضالين، وما يحمله المُضلون إنما هو جزاءُ الإضلال لا جزاءُ الضلال، وإنما خُص التأكيدُ بالجملة الثانية قطعاً للأطماع الفارغةِ حيث كانوا يزعُمون أنهم إن لم يكونوا على الحق فالتبعةُ على أسلافهم الذين قلدوهم {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ} بيانٌ للعناية الربانية إثرَ بيان اختصاصِ آثارِ الهداية والضلال بأصحابها وعدم حِرمان المهتدي من ثمرات هدايته وعدمِ مؤاخذة النفس بجناية غيرها، أي وما صح وما استقام منا بل استحال في سنتنا المبنيةِ على الحِكَم البالغة أو ما كان في حكمنا الماضي وقضائِنا السابق أن نعذب أحداً من أهل الضلال والأوزارِ اكتفاءً بقضية العقل {حتى نَبْعَثَ} إليهم {رَسُولاً} يهديهم إلى الحق ويردعهم عن الضلال ويقيم الحججَ ويمهد الشرائع حسبما في تضاعيف الكتاب المنزل عليه، والمرادُ بالعذاب المنفيّ إما عذابُ الاستئصال كما قاله الشيخ أبو منصور الماتريدي رحمه الله وهو المناسبُ لما بعده، أو الجنسُ الشامل للدنيوي والأخروي وهو من أفراده، وأياً ما كان فالبعثُ غايةٌ لعدم صحة وقوعِه في وقته المقدر له لا لعدم وقوعِه مطلقاً، كيف لا والأخرويُّ لا يمكن وقوعُه عَقيبَ البعث، والدنيويُّ أيضاً لا يحصُل إلا بعد تحقق ما يوجبه من الفسق والعصيان، ألا يُرى إلى قوم نوحٍ كيف تأخر عنهم ما حل بهم زُهاءَ ألف سنة.


وقوله تعالى: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً} بيان لكيفية وقوع التعذيب بعد البعثة التي جعلت غاية لعدم صحته وليس المراد بالإرادة تحققها بالفعل إذ لا يتخلف عنها المراد ولا الإرادة الأزلية المتعلقة لوقوع المراد في وقته المقدر له إذ لا يقارنه الجزاء الآتي بل دنو وقتها كما في قوله تعالى أتى أمر الله أى وإذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاك قرية بأن نعذب أهلها بما ذكرنا من عذاب الاستئصال الذي بينا أنه لا يصح منا قبل البعثة أو بنوع مما ذكرنا شأنه من مطلق العذاب أعني عذاب الاستئصال لما لهم من الظلم والمعاصي دنوا تقتضيه الحكمة من غير أن يكون له حد معين {أَمَرْنَا} بواسطة الرسول المبعوث إلى أهلها {مُتْرَفِيهَا} متنعميها وجباريها وملوكها خصهم بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل لأنهم الأصول في الخطاب والباقي أتباع لهم ولأن توجه الأمر إليهم آكدو عدم التعرض للمأمور به إما الظهور أن المراد به الحق والخير لأن الله لا يأمر بالفحشاء لا سيما بعد ذكر هداية القرآن لما يهدي إليه وإما لأن المراد وجد منا الأمر كما يقال فلان يعطي ويمنع {فَفَسَقُواْ فِيهَا} أي خرجوا عن الطاعة وتمردوا {فَحَقَّ عَلَيْهَا القول} أي ثبت وتحقق موجبه بحلول العذاب إثر ما ظهر منهم من الفسق والطغيان {فَدَمَّرْنَاهَا} بتدمير أهلها {تَدْمِيراً} لا يكتنه كنهه ولا يوصف هذا هو المناسب لما سبق وقيل الأمر مجاز عن الحمل على الفسق والتسبب له بأن صب عليهم ما أبطرهم وأفضى بهم إلى الفسوق وقيل هو بمعنى التكثير يقال أمرت الشيء فأمر أي كثرته فكثر وفي الحديث خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة أي كثيرة النتاج ويهضده قراءة آمرنا وأمرنا من الإفعال والتفعيل وقد جعلتا من الإمارة أي جعلناهما أمراء وكل ذلك لا يساعده مقام الزجر عن الضلال والحث على الاهتداء فإن مؤدى ذلك أن طغيانهم منوطاً بإرادة الله سبحانه وإنعامه عليهم بنعم وافرة أبطرتهم وحملتهم على الفسق حملا حقيقاً بأن يعبر عنه بالامر به.


{وَكَمْ أَهْلَكْنَا} أي وكثيراً ما أهلكنا {مّنَ القرون} بيانٌ لِكَم وتمييزٌ له، والقَرنُ مدةٌ من الزمان يُخترَم فيها القومُ وهي عشرون أو ثلاثون أو أربعون أو ثمانون أو مائة، وقد أيِّد ذلك بأنه عليه الصلاة والسلام دعا لرجل فقال: «عِشْ قرناً» فعاش مائة سنةٍ أو مائة وعشرين {مِن بَعْدِ نُوحٍ} من بعد زمنه عليه الصلاة والسلام كعادٍ وثمودَ ومَنْ بعدهم ممن قُصّت أحوالُهم في القرآن العظيم ومَنْ لم تُقَصَّ، وعدمُ نظمِ قومه عليه الصلاة والسلام في تلك القرون المهلَكة لظهور أمرِهم، على أن ذكره عليه الصلاة والسلام رمزٌ إلى ذكرهم {وكفى بِرَبّكَ} أي كفى ربُّك {بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا} يحيط بظواهرها وبواطنها فيعاقب عليها، وتقديمُ الخبير لتقدم متعلَّقِه من الاعتقادات والنيات التي هي مبادي الأعمالِ الظاهرةِ أو لعمومه حيث يتعلق بغير المُبصَرات أيضاً. وفيه إشارةٌ إلى أن البعثَ والأمر وما يتلوهما من فسقهم ليس لتحصيل العلمِ بما صدر عنهم من الذنوب فإن ذلك حاصلٌ قبل ذلك وإنما هو لقطع الأعذار وإلزامِ الحُجة من كل وجه.
{مَن كَانَ يُرِيدُ} بأعماله التي يعملها سواءٌ كان ترتُّبُ المراد عليها بطريق الجزاءِ كأعمال البِرّ أو بطريق ترتبِ المعلولات على العلل كالأسباب، أو بأعمال الآخرة فالمرادُ بالمريد على الأول الكفرةُ وأكثرُ الفسقة، وعلى الثاني أهلُ الرياء والنفاق والمهاجِرُ للدنيا والمجاهدُ لمحض الغنيمة {العاجلة} فقط من غير أن يريد معها الآخرةَ كما ينبىء عنها الاستمرارُ المستفادُ من زيادة كان هاهنا مع الاقتصار على مطلق الإرادةِ في قسيمه، والمرادُ بالعاجلة الدارُ الدنيا وبإرادتها إرادةُ ما فيها من فنون مطالبِها كقوله تعالى: {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا} ويجوز أن يراد الحياةُ العاجلة كقوله عز وجل: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} لكن الأولَ أنسبُ بقوله: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا} أي في تلك العاجلةِ فإن الحياةَ واستمرارها من جملة ما عُجِّل له، فالأنسبُ بذلك كلمةُ من كما في قوله تعالى: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} {مَا نَشَاء} أي ما نشاء تعجيلَه له من نعيمها لا كلَّ ما يريد {لِمَن نُّرِيدُ} تعجيلَ ما نشاء له وهو بدلٌ من الضمير في له بإعادة الجارِّ بدلَ البعض، فإنه راجعٌ إلى الموصول المنبىءِ عن الكثرة، وقرئ: {لمن يشاء} على أن الضميرَ لله سبحانه، وقيل: هو لِمَن فيكون مخصوصاً بمن أراد به ذلك، وهو واحدٌ من الدهماء، وتقييدُ المعجَّل والمعجَّل له بما ذُكر من المشيئة والإرادة لما أن الحِكمةَ التي عليها يدور فلكُ التكوين لا تقتضي وصولَ كلِّ طالبٍ إلى مرامه ولا استيفاءَ كلِّ واصل لما يطلُبه بتمامه، وأما ما يتراءى من قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} من نيل كلِّ مؤمِّلٍ لجميع آماله ووصولِ كلِّ عاملٍ إلى نتيجة أعمالِه، فقد أُشير إلى تحقيق القولِ فيه في سورة هود بفضل الله تعالى {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ} مكان ما عجلنا له {جَهَنَّمَ} وما فيها من أصناف العذاب {يصلاها} يدخُلها وهو حالٌ من الضمير المجرور أو من جهنم أو استئنافٌ {مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} مطروداً من رحمة الله تعالى، وقيل: الآية في المنافقين كانوا يُراؤون المسلمين ويغزون معهم ولم يكن غرضُهم إلا مساهمتَهم في الغنائم ونحوِها، ويأباه ما يقال إن السورةَ مكيةٌ سوى آياتٍ معينة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8